من مفكرتي :
كنت شاهدَ عيان ليوم ثورة 14 تموز
الاستاذ الدكتور احمد الحسو
مع ذكرى ثورة 14 تموز التي قامت في العراق في مثل يومنا هذا قبل ثلاثة وستين عاما، يسرنا ان ننشر جانبا من مذكرات الأستاذ الدكتور احمد الحسو عنها:
( تحت عنوان :كنت شاهدَ على هذا اليوم: يوم ثورة 14 تموز ، نشرت كلاما مقتضبا عما شاهدته في اذاعة بغداد في الصالحية قبل الثورة بيوم ثم بعيده.. واليوم اعيد نشره باضافات مفصلة تحمل وجهة نظر .. ودعوة الى ميثاق عمل وطني يخرجنا من دوامة جدل يتصاعد كلما مرت ذكرى ثورة 14 تموز، الى مجتمع عراقي رحب متصالح يأخذ بالاسباب والمسببات ويؤسس الى كل ما يحقق له كرامته بكل شرائحه وانتماءاته .)
قبل الثورة بيوم(13 تموز 1958)التحقت بالإذاعة في مبناها المعروف في الصالحية بعد إجازة قضيتها في الموصل …مساء ذلك اليوم التقيت بالسيد كاظم الحيدري مدير الإذاعة في العهد الملكي فطلب مني ان اباشر من الغد مذيعا لنشرات الأخبار الرئيسية ، وكنت قبلها أمارس عملي مذيعا لنشرات الاخبار الداخلية والبرامج الأدبية..
صباح اليوم التالي قامت ثورة 14 تموز
شهدت في ذلك اليوم تأييدا جماهيريا كبيرا، وشعورا بأن ما احدثته معاهدة سايكس بيكو اوائل القرن الماضي من تمزيق للبلاد والاوطان قد ولى، وان فجر حياة جديدة يولد، وانه سيؤدي الى عودة ما هو طبيعي الى طبيعته .. امة موحدة تحقق حلم وحدتها وكرامتها واحلام شعوبها. بيد ان هدفا كهذا كان يمكن ان يتحقق لو غلبت الحكمة نشوة النصر ، ولو ان الثوار جاؤوا بمنهج اصلاحي متفق عليه ولو كانوا قد درسوا خطواتهم خطوة خطوة، ولو انهم لم يقسوا على انفسهم ويمعنوا في القسوة على غيرهم .. لقد جاؤوا يحملون تناقضاتهم معهم، وغياب الخطط العلمية والعملية وراء نبيل ما اعلنوه من شعارات لا اشكك بصدقها ولكني لم اجدها تأخذ طريقها الى التنفيذ الا في حدود ضيقة، فقد غلب عليها ما حملته الثورة معها منذ اول لحظاتها من تناقضات وصراعات كان على الثوار ان يحسموها اولا ، بيد انهم لم يفعلوا مما ادخل البلاد في دوامة لما نزل حتى يومنا هذا نعاني افظع نتائجها؛ مما لمست أول مظاهره مع اول يوم من ايام الثورة والايام التي تليه إبان وجودي في مبنى الإذاعة في منطقة الصالحية أو خلال تجوالي في بغداد..
لقد وجدت فعلا عجبا …
قتل الملك الشاب وهو ومن معه من الأبرياء يحملون الراية البيضاء
قتلوا جميعا نساء واطفالا، الا بعض من أخطأته الرصاصات الطائشة
كان الناس بطبيعتهم يميلون الى الطيبين أمثالهم.. كان الملك الشاب طيبا ومحبوبا.. واني لأشهد انني وجدت في عيون كثيرين حزنا كبيرا عليه بخاصة ، وعلى كل من قتل مظلوما معه بعامة…
في ساحة الميدان قرب وزارة الدفاع تجمع اناس كثيرون في اليوم الثاني من الثورة يهتفون لها ..سمعت أحدهم يصرخ وهو يحمل بيده سلاحا قائلا : هذا هو فاضل الجمالي فهجم عليه القوم وعلى من معه وقتلوهم ببرودة أعصاب … ثم ، وبعد عشرات السنوات من هذا التاريخ التقيت شخصيا خلال حضوري مؤتمرا اكاديميا في تونس فاذا هو الدكتور فاضل الجمالي رحمه الله ، ورأيت فيه رجلا فاضلا مثقفا حدثني وحدثته وكان محور كلامه حبه المطلق للعراق.
ترى من هو البريْ الذي قتل على انه هو، ومن هم الذين قتلوا معه في ساحة الميدان في بغداد؟؟
قيل فيما بعد انهم من رجالات بلد كريم..
بعيد يوم من الثورة ( لا أتذكر بالضبط لعله اليوم الثالث ) كنت في منطقة ( الكَمْ ) من بغداد فاذا الناس مجتمعون امام جثة تحترق بما يدمي القلب…وحين سألت عن أمرها قالوا : هذه جثة صباح ابن نوري السعيد، رئيس وزراء العراق ، وقد شوهد هنا فقتل ثم أحرق..
في اليوم التالي – ولعله الذي بعده – كنت في مبنى الإذاعة في الصالحية فاذا اصوات رصاص متبادل بكثافة حول مبنى الاذاعة ،مما اشاع خوفا وهلعا فينا جميعا، فلما هدأ الأمر قيل لنا ان السيد صباح ابن نوري السعيد -رحمهما الله- كان يقود سيارته قرب الإذاعة وكان يطلق الرصاص يمينا ويسارا وان القوة العسكرية التي كانت تحرس مبنى الإذاعة تصدت له وأردته قتيلا…
ترى من هو ذلك الانسان البائس الذي قتل واحرق في منطقة الكم في بغداد على انه صباح نوري السعيد، مع ان الاخير لم يكن رجل سياسة ابدا ،
ولعل من افظع ما شاهدته صورة الامير عبد الاله – رحمه الله – ،خال الملك فيصل وهو يجر في الشوارع ثم يمثل به ويعلق على عمود كهرباء..
تلكم صورة عن بعض ما شاهدته يوم 14 تموز والأيام التي تلته
لقد اعلنت الثورة مبادئها – كما ذكرت آنفا – وطرب لها الشعب وبنى صرحا من الاحلام الوطنية والقومية كان يتأمل تحقيقها ، بيد انها لما تتحقق حتى يومنا هذا مع الاسف .
لست هنا بصدد تقييم العهد الملكي او العهد الجمهوري، فانا رجل مؤرخ ، واعلم حق العلم ان تقييما كهذا يجب ان يكون موضوعيا ومستندا الى وثائق محققة ومعتمدة ودراسات معمقة رصينة، و لذلك أوانه – ان شاء الله – ولكني اردت هنا ان أطرح وجهة نظر وان ادون ما شاهدته وأتساءل فحسب عن السر في عدم تحقق مبادئ الثورة ، وحقيقة أن ممارسة ثقافة الطغيان البشع والاستهانة بكرامة الانسان استمرت ،بل وتطورت؛ شكلا وبشاعة ومضمونا بعدها،قد يقول قائل فاضل : أتتجاهل كثيرا مما انجز؟
وأقول :
كلا… انني أحيي كل منجز حَقَّقَ للإنسان العراقي مُرْتفَعَا في حياته وحفظا له في كرامته، وما أكثر ما تحقق في العهدين واني على ذلك لشهيد ،ولكني أومئ الى الحصيلة النهائية ..
الى مأساة أمة لم يصبها من ذلك كله ما يحفظ لها كرامتها ، والى شعوب يكاد عدد شهدائها اليوم يوازي عدد أحيائها
انا هنا أقول : . افلا يدعونا هذا الى ان نضع كل ذلك موضع النقد ونحدد مكامن الخلل في مسيرة تجاوز عمرها مائة عام بعد سايكس بيكو ، ومن ثم طريق الصواب .
ان الدخول في جدل حول السلب والايجاب في سجل قادة ورجال الثورة ، يبقي الامة في اطار الصراعات نفسها .. في حين ان دراسة سياساتهم وتشخيص ايجابها وسلبها والنظر الى ذلك من منظور طبيعة كل عصر وظروفه وقيمه العامة يجعلنا نقترب من بعضنا وونواجه مشكلاتنا بانفسنا عبر دراسات معمقة تحكمها تجربة عصرنا الذي نعيش فيه .
ان ثمة خللا في تاريخنا وتراثنا وفي قيمنا التربوية وفي ثقافتنا العامة، يقف – من وجهة نظري – وراء هذه الانحرافات عن أهداف الشعوب النبيلة ووراء فشل ثوراتنا ومشاريع تحررنا ،مع الإشارة الى ان كل من تصدى للعمل العام من حكام وملوك وقاد ة وثوار هم نتاج لهذا الخلل، ولهم ايجابهم وسلبهم .
نحن ايها الأفاضل ..
يا ايها المفكرون
و يا حكماء الأمة
ويا نخبها الثقافية ..
يا نساءها ويا رجالها
ويا شاباتها وشبابها
بحاجة الى ان نلتف حول ميثاق وطني يخرج امتنا عما هي مستهلكة فيه .يبتدى اولا باعتذار كلٌ فئة او حزب أو أفراد عما يكونوا قد سببوه من أذي لغيرهم، ويؤسس لتشخيص الخلل ومن ثم الانطلاق نحو حياة حرة كريمة في خطة تستند الى العلم والمعرفة والنظريات العلمية الصائبة التي تحترم حق الشعوب ؟.
ان ذلك اجمل ما نقدمه لكل شهيد قضى ، ولكل اسرة تعيش حزن غياب أعزائها عنها ، ولانفسنا نحن هذا الجيل المعذب بكل فئاته العمرية ، وهو اكبر هدية نقدمها الى الاجيال القادمة.